الصباح الباكر البارد، وذلك البريق الذي لمع في عينيه، بدت دموع بائسة ومشاعر دفينة، لحظات من الصمت تراوده.
أخذت أصابعه تدق كأنما مطرقة صلبة على كرسيه المتحرك، وكأنما لا يستطيع تحريك شيء من جسمِهِ سوى أصابعه وكأنما لا حياة إلا لتلك الأصابع النحيلة.. تختفي من نظراته ابتسامة ويبقى الصمت هو جُلوسُهُ.
شيء من الماضي يُراوده، يتمناه، يشتاق أن يعود به، حيث القوة الخارقة ألا وهي قوة الصحة والعافية والحركة الطاغية والسعي إلى الرزق وجلب العافية، ليت الماضي يعود ليكون شاكرا، فقدماه المشلولتان لا تحملاه، وضعف جسده لا يعطياه إلا اليأس والأحلام، امتلأت عيناه دموعا وبالكاد يرى طريقه، أغمض عيناه بألم ففاضت فيض من الدموع الحزينة.
تمنى أن يعود الماضي ليكون إنسانا صالحا، لا يبخل بعطية ولا يرمي هدية، لم تَعُد الأشياء كما كانت، كل شيء تغير، فرفاقه تخلوا عنه وأهله نسوه وخطيبته تركته، تساءل: إذن ما فائدة الصديق.. والأهل.. والزوجة المحبة، ما فائدتهم إن لم يقدموا يد العون لمن غاب عنهم..! تساءل وفي صدره حشرجة: فقدت قوتي.. وهأنا معاق يوضع على هامش الحياة... عاد يعاتب نفسه لماذا يهتموا بي وأنا كنت بالأمس طاغية..
أشاح بوجهه، وغابت نظراته في البعيد، وأخذت الرياح تحرك خصلات شعره المنسدلة على جبينه... والتي لطالما تباهي بها أمام الآخرين، كان شابا وسيما، محظوظا، له مركز اجتماعي، لكنه كان يفتقد الخلق الحسن وإلى شيء من التواضع... ضايقت أذنه ضربات حذاء من مصدر بعيد، بدت هذه الأقدام الصلبة تبعث وقعا في صدره، تمنى لو يعود شيء من الماضي ليسرع إلى المصدر يكشفه
فجأة.. دخلت خطيبته تلك الشابة الأنيقة منذ عرفها، بدت هذه المرة جادة، حازمة، كأنما تريد أن تقول شيء في خاطرها، اقتربت منه باسمة بحزن: كيف الحال؟ لم يرد لكنه ظل محدقا بها كأنما ينتظر منها أن تودعه.. إنها جادة فيما سمعه منها ليلة الأمس حين زارته مع ابن خالتها، لقد أخبرته، أنها لم تَعُد تتحمل أن تبقى دون زواج بسببه، حدق بها والصمت بينهما يقطعه، ليته لم يعرفها أو تعرفه، ليت الماضي يعود ليحسن الاختيار ويكون خير جار، اقتربت أكثر لكن صوته القوي أوقفها قائلا: قولي ما عندك...
إنه يعرفها، ناكرة، قالت بصوت مخنوق: خ ... خالد أنت تعلم أن هذا الأمر ليس بيدي... أهلي هم من أجبروني... هم متعاطفون معك لكن... لكن... هم يريدوني متزوجة.. يريدون أن يفرحوا بي... أنا أ..
قاطعها بصوت رعدي: يكفي...!!!
إنها تكذب، يعرف نبرتها، توترها، ارتباكها حين لا تجد مبررا، حين لا تجد تجاوبا، ليته عرفها من البداية، مدت يدها نحو كتفه ثم قالت كأنما تريد الصفح: خ .. خالد أنت تعلم أنني أحبك... لكن الظروف والحادث و... وماذا؟ إنها تضع الملح على الجرح الحار ولا تكف عن خلق القصص والأقوال، أبعد يدها وتحرك بكرسيه ناحية الشرفة وحدق بعيدا، إنه يبتعد يحاول أن ينساها وينسى ماضيه الأسود الذي لطالما تمنى أن يعود ليحسن الوعود، بكى وأجهش بالبكاء، تعالى صوت حشرجته وهو يبكي ندما، حسرتا، يبكي كما لو أنه طفل صغير، يبكي وهو يسأل نفسه: ربما هو عقاب من الله، لقد كان إنسانا تافها، أسعى للهو والمرح وأنسى رضا أهلي عني، هو بالفعل عقاب من رب الأرباب على تكبري وفجوري، على أخلاقي السيئة مع الناس، هو بالفعل عقاب قالها مخاطبا نفسه: لا أحد معي يذكرني بعد الحادث، حتى من هي أقرب الناس لي... خطيبتي التي أحببتها... لحظة! .. هو لم يحبها يوما ولم يكن جادا في حبها إنما كان ينظر إلى حب المصلحة حب التباهي والغطرسة.. الآن سيخبرها بالحقيقة المرة كما هي أخبرته بحقيقتها المفجعة سيخبرها أنه لم يحبها أبدا ولم يعجبه بها سوى منصب والدها ومركزه وماله، لم يجذبه سوى الفوز بوظيفة عند والدها، قد يكون قاسيا لو أخبرها لكنه يريد أن يقسو كما قست ويريد أن يجرح كما جرحت... يريدها أن تبكي ندما عليه... كان هذا قراره، استجمع قواه، وبلع ريقه، والتفت نحوها بحركة... لكن... لا أحد، لقد رحلت وتركته وحيدا رحلت بكل هدوء وبُرود لتلتفت إلى حياتها، لقد أساء الاختيار هذا ما كانت والدته تقوله، خنقته عَبْرَة وهو يتذكر صورتها، بل صورته مع صورتها وأصواتهما المتعالية الساخرة من الآخرين، ربما كانا يسخران من بعضهما البعض، ربما هذا قدره في أن يكون ضالا يوما فيهديه الله، شيء من الماضي يؤلمه وهو يقلب صفحاتها، يتمنى لو يحرقها لتتلاشى من تفكيره أو أن يعود الماضي فيحسن اختياره وشيء من أخلاقه...
أطلق من صدره تنهيدة كئيبة.. وعاد للشرفة... ليسرح وينسى الماضي المرير أو يتمنى عودة الماضي ليحسن الفعل والتدبير.
***********
***********
***********
***********
********************
******************
****************
**************
************
**********
********
******
****
**
*