هل يمكن أن يغير كاتب حقيقة تاريخية وصلت إلى درجة الشيوع بإيراد أدلة تثبت عكس ما تعارف عليه الناس؟ وهل تقبل الدوائر العلمية أن يقلب باحث، مهما بلغت دقة وموضوعية بحثه، ومهما بذل من جهد، حقائق التاريخ إلى درجة إثارة الغبار حول شخصيات يعدون من العظماء حسبما تشير كتب التاريخ؟ هذان السؤالان وغيرهما من الأسئلة تفرض نفسها بعد صدور كتاب عن اختراع الهاتف ينفي فيه مؤلفه شيث شولمان صفة مخترع الهاتف عن ألكسندر جراهام بل.
هذا الكتاب الضئيل الحجم (252 صفحة)، الذي صدر عن دار نورتون الأمريكية للنشر أوائل هذا العام بعنوان: اكتشاف الهاتف: متابعة سر ألكسندر جراهم بل، يثير الكثير من الشك حول دور هذا الرجل في اختراع الهاتف. وهو عمل مهم على الرغم من أن غرابة الحقيقة التي توصل إليها تغطي على الجهد الذي بذله المؤلف في سبل إزالة الغبار المتراكم حول هذا الموضوع. وقد لا نقتنع تماما بكل ما ورد في هذا الكتاب، ولكن المؤلف يقول إن هناك حقائق دامغة تؤكد أن بل اختلس نظرة على طلب براءة الاختراع الذي تقدم به منافسه المخترع إليشا جراي، وسرق منها جزءا مهما، وعاش ما تبقى من حياته بعد ذلك تحت وطأة الشعور بالذنب.
والمؤلف في الواقع ليس من أولئك الذين يتتبعون أخطاء المشاهير. بل إن أحدا لا يمكن أن يصل إلى مستواه في زهده في التوصل إلى ما وصل إليه، وخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار إعجابه الكبير بجراهام بل. ولعل هذا هو ما يعطي هذا الكتاب أهميته، حيث لم يكتف المؤلف بتوضيح الخطوات التي اتبعها في لملمة خيوط روايته حول هذا الموضوع، بل أشار إلى حالة الصراع التي عاشها من أجل التغلب على تردده في إنجاز عمله هذا.
لماذا تصرف بل هكذا إذن، وهو المشهود له بين كل من تعرف به بحسن الخلق؟ ولماذا لجأ إلى السرقة من منافس لم يلتق به طوال حياته؟ وهل اتجه إلى السرقة بدافع ذاتي أم هناك من أجبره على ذلك؟ وهل يمكن لجريمة على هذه الدرجة من الخطورة أن تمضي هكذا دون أن يلتفت إليها أحد طوال هذه الفترة التي مضت منذ حدوثها؟ تتوارد الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها بسلاسة في هذا الكتاب، غير أن الانطباع الذي يتركه في القارئ هو شيء من الإثارة أكثر من كونه شعورا بأن ما يقرأه نوع من تاريخ العلوم. وتشمل الشخصيات التي تتناولها هذه الرواية الحقيقية موظفا مدمنا على الكحول في مكتب تسجيل البراءات، ومحكمين غير مدققين، وفتاة جميلة كان بل يتوق إلى الاقتران بها. وكان أول انتباه للمؤلف لمادة الكتاب في عام 2004، عندما كان في مهمة بحثية في معهد دنبر لتاريخ العلوم والتقانة، حيث شملت دراسته آنذاك وثائق رقمية حديثة للأوراق الخاصة لجراهام بل. وعلى الرغم من شعوره بالارتياح لكونه أصبح أقرب ما يكون للرجل الذي طالما اعتبره قدوة له في الحياة فقد ذهل لشيء لاحظه. كان شولمان ملما برواية اختراع الهاتف كما ألم بها أي شخص آخر، أو هكذا اعتقد. وتقول هذه الرواية إن ألكسندر جراهام بل وإليشا جراي تقدما بطلبيهما للحصول على براءة اختراع الهاتف في نفس اليوم من عام 1876م. وعلى الرغم من أن طلب جراي جاء في شكل طلب (براءة اختراع مؤقت) مدعوم بالرسوم إلا أن ذلك كان كافيا لمنحه حق المضي في البحث، ورفض أي طلب آخر يأتي بعده. وهناك جدل حول من تقدم بطلبه أولا، غير أن الرواية الرسمية تقول إن بل تقدم بطلبه قبل جراي بساعات قليلة، ولذلك منح براءة الاختراع، ولكن الكثيرين من المؤرخين يقولون إن جراي هو الذي تقدم بالطلب أولا. ثم جاءت اللحظة الفاصلة في الشهر التالي لذلك، وهي اللحظة التي طالما قرأنا عنها في كتب التاريخ. فقد حدث أن سكب بل بعض الحمض أثناء عمله في مختبره، ما جعله ينادي على مساعده واطسون قائلا: (واطسون تعال هنا، أنا أريدك). وسمع واطسون، الذي كان في الحجرة المجاورة، هذه الكلمات بوضوح عبر الأداة التي كانا يجريان عليها التجارب، وهكذا ولد الهاتف، أو هكذا ظللنا نعتقد.
ولكن الذي أرق مضجع شولمان أن هذه الحادثة التي تشبه حادثة (وجدتها) الشهيرة لأرخميدس، بنيت على عنصر ظل غائبا تماما عن أبحاث بل حتى قبل يومين من الحادثة، ثم ظهر فجأة في مجلة بل في شكل رسم بياني يشبه تماما رسما أورده جراي في طلبه الذي تقدم به للحصول على براءة الاختراع، على الرغم من أن بل في الأيام القليلة التي سبقت ظهور هذا الرسم مباشرة لم يكن يعمل في مختبره، بل كان في واشنطن متابعا إجراءات التقديم لطلب براءة الاختراع، ما يعني أنه اطلع على طلب جراي وسرق منه هذا الرسم ثم أسرع به إلى واشنطن ليفوز بسبق التقديم. ومن هذه النقطة تابع شولمان استقصاءه حول هذا الموضوع ليقرر في النهاية أن بل كان مخترعا عظيما، وساهم كثيرا في تطوير الهاتف، ولكنه بالتأكيد ليس مخترع الهاتف. ويؤكد المؤلف أن بل كان رجلا موهوبا ومهذبا وعاش بقية حياته شاعرا بالذنب بعد اندفع دفعا إلى ارتكاب هذه السرقة.
وقد دعم المؤلف كتابه بتفاصيل عن عصر الاختراعات الذي عاش فيه بل والظروف التي كانت تحيط به، كما نجح في سرد روايته دون التعمق في الجانب التقني، حتى لا يؤدي به ذلك إلى فقدان القراء ذوي الثقافة التقنية المنخفضة. ويمكننا القول إن المؤلف نجح في تناول موضوعه بأسلوب سهل، إضافة إلى أنه نجح في إثارة عدد من علامات الاستفهام حول الطرق التي يمكن بها التستر على الحقيقة بعيدا عن أعين الناس.
موضوع: أسرار جديدة حول اختراع الهاتف 
الخميس 5 يونيو 2008 - 19:00
